الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فإن الوقف من الصدقة الجارية على أعمال البر والتي يراد منها الأجر والمثوبة، واستدامة منفعتها في الدنيا والآخرة، وهو من عقود التبرعات التي يقصد منها التقرب والطاعة. وقد تضافرت النصوص الشرعية على مشروعية الوقف والحث عليه ، ومنها : قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ) [ يس : ۱۲ ] ، وهذه الآية مكية عند العلماء ، وفيها إشارة للحث على الوقف وترك الآثار الحسنة للمرء حتى يجد ثوابها عند الله تعالى ، والشاهد في قوله تعالى : { وَآثارَهُمْ ) ، فإنها شاملة للخطى وآثار الأرجل ، كما أنها مشتملة على كل ما يُخلّفه الأموات من آثار لأعمالهم ومنها : ما سَنَوه في الإسلام من سنة حسنة أو سيئة ، فهو من آثارهم التي يعمل بها بعدهم . ويشهد لهذا المعنى: ما خرّجه مسلم في صحيحه عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - : " من سن في الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها ، وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - ﷺ صلى الله عليه وسلم - قال : "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له". وقد ذكر العلماء أن الصدقة الجارية هنا هي الوقف، لجريان العمل بها مع جريان أجرها بسبب بقاء عينها. وأصاب عُمَرَ أَرَضًا بِحَيْبَرَ فَأَتَى النّبيّ - ﷺ - فقال : أصَبْتُ أَنَّمَا بخَيْبَرَ لَمْ أصب مالا قَط أَنْفَسَ عندي منْهُ ، فَكَيْفَ تَأمُرُني ؟ قال: "إن شئتَ حَبَسْتَ أَصَلَهَا، وَتَصَدّقت بها" قال ابن عمر: فَتَصَدّق بها عُمَرُ، على أَنّهُ لا يُبَا أَصَلَهَا وَلا يُوَرَتُ وَلا يُومُهُ، لِلْفُقَرَاء، وَفِي الْقُرْبَى، وَفي الرّقاب، وللضيف، وَابْنِ السَبيلِ، وَفي سَبِيلِ الله، لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطعمُ صَدِيقَا غَيْرَ مُتَمَوّلِ مِنْهُ.
وكثير من أحكام الوقف ثابتة بالاجتهاد، نظرًا لأن النصوص الواردة فيه في جملتها عامة الدلالة، مما دعا العلماء إلى بذل الجهد في تفصيل أحكامه وبيانها، ويعد هذا العموم ميزة توسع مجالات الوقف وتواكب متغيرات الزمان.
وبعد: فلا غرو أن يقف الدارس للحضارة الإسلامية معجبًا كلّ الإعجاب بدور الأوقاف في صناعة الحضارة الإسلامية والنهضة الشاملة للأمة، ومن يقرأ تاريخ الوقف سيجد أنه شمل مختلف جوانب الحياة من الكتاتيب والمدارس والمعاهد والجامعات ودور الأيتام والأربطة والمستشفيات. إنه يؤسس لخدمة الحضارة والعلم والتقدم، ولخدمة المجتمع وتطويره، وبخاصة في الجانب التعليمي منه، فالوقف له دوره المؤثر في نهوض المؤسسات التعلمية وفي دعم مسيرتها العلمية والبحثية.
واليوم الحاجة ماسّة ومُلحّة لنشوء أوقاف علمية وطبية في جامعة جدة متوائمة مع ثقافتنا وحضارتنا ورؤيتنا، لتساهم في دعم الأنشطة التي تؤدي إلى تعزيز جهود البحث والتطوير والتعليم، ودعم المستشفيات الجامعية والأبحاث العلمية والصحية، وتفعيل العلاقة بين الجامعة والمجتمع، وتحسين مستوى الجامعة في التصنيفات العالمية.
والبحث العلمي من أهم طرق المعرفة التي هي أمل الأمة في التقدم والتطوير، وصدق رسول الله وحين قال: «مَا تَصَدَقَ النّاسَ بصَدَقَة مِثلَ علم يُنسَنَ» [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وكما قال الإمام عبد الله المبارك رحمه الله: «لاً أَعْلَمُ بَعْدَ التَبَوَة دَرَجة أفضلَ مِنْ بَتِ العلم»، لذا فتخصيص أوقاف للبحث العلمي حاجة ملحة وضرورة علمية.
وأما الجانب الطبي فيكفي في التنبيه على أهميته ما وقفه المسلمون من الأموال لإنشاء المستشفيات العلاج الإنسان بل والحيوان. فأول دار اُسّست لمداواة المرضى في الإسلام بناها في دمشق الخليفة عبدالملك الأموي عام ۸۸هـ، وجعل فيها الأطباء وأجرى عليهم الأرزاق عن طريق الأوقاف، في حين أعطى كلّ مُقعد خادمًا يهتم بأمره، وكلّ ضرير قائدًا يسهر على راحته. كما أن أول مستشفى كبير في تاريخ الحضارة الإسلامية هو المارستان الذي أمر ببنائه هارون الرشيد في بغداد، وبلغ من عناية المسلمين بالرعاية الصحية وتطوير خدماتها أن خصصت أوقاف لبناء أحياء طبية متكاملة. وتحدّث المؤرخون والرّحالة عن المستشفى الذي أنشأه الملك قلاوون بمصر، وجعله وقفًا لعلاج مرضى المسلمين، قال عنه ابن بطوطة: «يعجز الوصف عن محاسنه، وقد أعدّ فيه من الأدوية والمرافق الخدمية ما لا يحصى ".
يقول علماء الاقتصاد: "الوقف إحدى وسائل تمويل المشروعات ذات النفع العام في الإسلام، وقد استخدمه المسلمون لتمويل الإنفاق على مشروعات حيوية مثل الإنفاق على الخدمات الصحية والتعليمية وتوفير المياه وبناء المساجد وصيانتها وشق الطرق وإصلاحها وكفالة الأيتام ورعاية الأرامل والمعوزين، ولا يكاد يوجد باب من أبواب النفع العام إلا وللوقف إسهام في تمويله والإنفاق عليه". فما أكثر منافع الوقف وبركاته.
اللهم هيئ لأوقاف جامعة جدة قادة مخلصين ورعاة مباركين وتجارًا داعمين، وبارك لهم في أموالهم وأعمارهم وأهليهم وذرياتهم يا سميع الدعاء.
|